فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا أن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيبًا.
وهو كما قال ابن كثير غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة، واحتج له بأن كلًا منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى.
ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرس.
والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لابد أن يكون سليمًا من منفر ومثلوه بالعمى والبرص والجذام، ولا يرد بلاء أيوب وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروه بعد الإنباء والكلام فيما قارنه، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته.
وقد يقال: إن صح ذلك فهو من هذا القبيل.
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: {يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} مر تفسيره {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم.
ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام فيه.
والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} لترتيب الأمر على مجيء البينة، واحتمال كونها عاطفة على {اعبدوا} بعيد، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل: قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا الخ؛ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة.
ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب.
ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس {فَأَوْفُواْ} إلخ وليس بشيء كما لا يخفى.
وقال الزمخشري: إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب اهـ.
وقال الألوسي:
وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصًا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبًا عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي.
وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران (54) في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم: إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام، والمراد بالكيل ما يكال به مجازًا كالعيش بمعنى ما يعاش به.
ويؤيده أنه قد وقع في سورة هود (58) {المكيال} وكذا عطف. عليه هنا، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرًا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن.
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس} أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس.
وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس.
وتعدى إلى مفعولين أولهما {الناس} والثاني {أَشْيَاءهُمْ} أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقًا فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قومًا طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس.
وروي أنهم يعطونه أيضًا بدلها زيوفًا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء.
قيل: ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه.
وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفًا وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة على ما قال الإمام لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالًا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدأوا بمنعهم عن ذلك النوع، وكان قومه عليه السلام مشغوفين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضًا.
{وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض} بالجور أو به وبالكفر {بَعْدَ إصلاحها} أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف، والفاعل الأنبياء وأتباعهم.
وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها.
ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، وأيًا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر.
ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقًا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم، وقيل: ليس المراد من {خَيْرٌ} هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قيل: المراد بالإيمان معناه اللغوي، وتخص الخيرية بأمر الدنيا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي، ومثل هذا الشرط على ما قال الطيبي إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد، ويعلم من هذا أن شعيبًا عليه السلام كان مشهورًا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم مشهورًا عند قومه بالأمين.
وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر: إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقًا.
وقال القطب الرازي: إن ذلك ليس شرطًا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل: فاتوا به إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به.
وقيل: المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلك خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا، وشرط الإيمان لأن الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرًا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جدًّا.
وزعم الخيالي أن الأظهر أن {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه.
وقد فر من هرة ووقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
تفسير صدر هذه الآية هو كتفسير نظيرها في قصّة ثمود، سوى أنّ تجريد فعل {قال يا قوم} من الفاء هنا يترجّح أنّه للدّلالة على أنّ كلامه هذا ليس هو الذي فاتحهم به في ابتداء رسالته بل هو مِمّا خاطبهم به بعدَ أن دعاهم مِرارًا، وبعدَ أن آمنَ به مَن آمن منهم كما يأتي.
ومَدْيَن أمّة سُمّيت باسم جَدّها مَدْيَنَ بننِ إبراهيم الخليللِ عليه السّلام، من زوجه الثّالثة التي تزوّجها في آخر عُمره وهي سرية اسمُها قَطُورَا.
وتزوّج مَدْيَنُ ابنةَ لوط عليه السّلام وولد له أبناء: هم عيفة وعفر وحنوك وأبيداع وألْدَعة وقد أسكنهم إبراهيم عليه السّلام في ديارهم، وسطًا بين مسكن ابنه إسماعيل عليه السّلام ومسكن ابنه إسحاق عليه السّلام، ومن ذرّيتهم تفرّعت بطون مَدْين، وكانوا يعدّون نحو خمسة وعشرين ألفًا، ومواطنهم بين الحجاز وخليج العقبة بقرب ساحل البحر الأحمر، وقاعدة بلادهم وَجّ على البحر الأحمر وتنتهي أرضهم من الشّمال إلى حدود مَعان من بلاد الشّام، وإلى نحو تبوك من الحجاز، وتسمّى بلادهم الأيْكَة.
ويقال: إنّ الأيكة هي تبوك فعلى هذا هي من بلاد مَدين، وكانت بلادهم قرى وبوادي، وكان شعيب عليه السّلام من القرية وهي الأيْكَة، وقد تَعرّبوا بمجاورة الأمم العربيّة وكانوا في مدّة شعيب عليه السّلام تحت ملوك مصر، وقد اكتسبوا بمجاورة قبائل العرب ومخالطتهم لكونهم في طريق مصر، عربيّة فأصبحوا في عداد العرب المستعربة، مثل بني إسماعيل عليه السّلام، وقد كان شاعر في الجاهلية يعرف بأبي الهَمَيْسَع هو من شعراء مَدْيَن وهو القائل:
إن تَمْنَعِي صَوْبَككِ صوب المدمع ** يجْري على الخدّ كضئب الثَّغْثَع

من طَمْحَةٍ صبيرُها جَحْلَنْجَعِ

ويقال: إنّ الخطّ العربي أوّل ما ظهر في مدْين.
وشعيب عليه السّلام هو رسولٌ لأهل مدين، وهو من أنفسهم، اسمُه في العربيّه شُعيب عليه السّلام واسمه في التّوراة: يَثْرُون ويسمّى أيضًا رَعْوَئِيلَ وهو ابن نويلى أو نويب بن رَعْويل بن عيفا بن مدين.
وكان موسى عليه السّلام لمّا خرج من مصر نزل بلاد مديَن وزوّجَه شعيبٌ ابنتَه المسمّاة صَفورَه وأقام موسى عليه السّلام عنده عشر سنين أجيرًا.
وقد خبط في نسب مدين ونسب شُعيب عليه السّلام جمع عظيم من المفسّرين والمؤرّخين، فما وجدتَ ممّا يخالف هذا فانبذه.
وعَدّ الصفدي شعيبًا في العِميان، ولم أقف على ذلك في الكتب المعتمدة.
وقد ابتدأ الدّعوة بالإيمان لأنّ به صلاح الاعتقاد والقلب، وإزالة الزّيف من العقل.
وبيِّنة شعيب عليه السّلام التي جاءت في كلامه: يجوز أن تكون أطلقت على الآية لمعجزة أظهرها لقومه عَرفوها ولم يذكرها القرآن، كما قال ذلك المفسّرون، والأظهر عندي أن يكون المراد بالبيّنة حجّة أقامها على بطلان ما هم عليه من الشّرك وسوء الفعل، وعجزوا عن مجادلته فيها، فقامت عليهم الحجّة مثل المجادلة التي حكيت في سورة هود فتكون البيّنة أطلقت على ما يُبيّن صدق الدّعوى، لا على خصوص خارق العادة، أو أن يكون أراد بالبيّنة ما أشار إليه بقوله: {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا} أي يكون أنذرهم بعذاب يحلّ بهم إن لم يؤمنوا، كما قال في الآية الأخرى: {فأسقط علينا كِسْفا من السّماء إن كنت من الصّادقين} [الشعراء: 187] فيكون التّعبير بالماضي في قوله: {قد جاءتكم} مرادًا به المستقبل القريب، تنبيهًا على تحقيق وقوعه، أو أن يكون عَرض عليهم أن يظهر لهم آية، أي معجزة ليؤمنوا، فلم يسألوها وبادروا بالتّكذيب، فيكون المعنى مثلَ ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه السّلام: {قد جئتكم ببينة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنتَ جئتَ بآية فأتتِ بها} [الأعراف: 105، 106] الآية، فيكون معنى: {قد جاءتكم} قد أعِدّت لأنّ تجيئكم إذا كنتم تؤمنون عند مجيئها.